فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}
قبل أن يحظر الحق سبحانه على المؤمنين الاستغفار لآبائهم المنافقين، بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالك {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ}، وإذا كان النبي ينهى، فالمؤمنون من باب أوْلى ليس بهم الحق في ذلك؛ لأن الله لو أراد أن يكرم أحدًا من الآباء لأجل أحد، لأكرم أباء النبي إن كانوا غير مؤمنين.
وكلمة {مَا كَانَ} تختلف عن كلمة ما ينبغي فساعة تسمع ما ينبغي لك أن تفعل ذلك فهذا يعني أن لك قدرة على أن تفعل، لكن لا يصح أن تفعل، ولكن حين يقال: ما كان لك أن تفعل، أي: أنك غير مؤهل لفعل هذا مطلقًا.
ومثال ذلك أن يقال لفقير جدًّا: ما كان لك أن تشتري فيديو؛ لأنه بحكم فقره غير مؤهل لشراء مثل هذا الجهاز، لكن حين يقال لآخر: ما ينبغي لك أن تشتري فيديو أي: عنده القدرة على الشراء، لكن القائل له يرى سببًا غير الفقر هو الذي يجب أن يمنع الشراء. إذن: فهناك فَرْق بين نفي الإمكان، ونفي الانبغاء.
وهنا يقول الحق سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم} أي: ما كان للنبي ولا المؤمنين أن يستغفروا للذين ماتوا على الشرك والكفر، ولو كانوا أولي قربى. فهذا أمر لا يصح. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)}
وقوله تعالى: {وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى}: كقوله: «أَعْطوا السائلَ ولو على فرس»، وقد تقدَّم ما في ذلك، وأنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)}
أصلُ الدين التَبَرِّي من الأعداء، والتولِّي للأولياء، والوليُّ لا قريبَ له ولا حميم، ولا نسيبَ له ولا صَديق؛ إنْ وَالَى فبأمر، وإنْ عادى فَلِزَجْر. اهـ.

.تفسير الآية رقم (114):

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أنكر أن يكون لهم ذلك.
وكان الخليل عليه السلام المأمور بالاقتداء به واللزوم بملته قد استغفر لأبيه، بين أنه كان أيضًا قبل العلم بما في نفس الأمر من استحقاقه للتأبيد في النار، فقال دالًا بواو العطف على أن التقدير: فما استغفر لهم بعد العلم أحد من المؤمنين: {وما كان استغفار إبراهيم} أي خليل الله: {لأبيه} أي بعد أن خالفه في الدين {إلا عن موعدة} أي وهي قوله: {لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} [الممتحنة: 4] وأكد صدور الوعد بقوله: {وَعَدَها إياه} أي الخليل لأبيه قبل أن يعلم أنه أبدى الشقاوة، وقيل: الضمير لأبيه، كان وعده أنه يسلم فاستغفر له ظنًا منه أنه صدق في وعده فأسلم، والذي يدل على أنه كان قبل علمه بذلك قوله: {فلما تبين له} أي بيانًا شافيًا قاطعًا {أنه عدو لله} أي الملك الأعلى مؤبد العداوة له بموته على الكفر أو بالوحي بأنه يموت عليه {تبرأ} أي أكره نفسه على البراءة {منه} ثم علل ما أفهمته صيغة التفعل من المعالجة بقوله: {إن إبراهيم لأواه} أي شديد الرقة الموجبة للتأوه من خوف الله ومن الشفقة على العباد؛ قال الزجاج: والتأوه أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء {حليم} أي شديد التحمل والإغضاء عن المؤذى له، هكذا خلقه في حد ذاته فكيف في حق أبيه ولو قال له {لأرجمنك واهجرني} [مريم: 46] وأضعاف ذلك؛ قال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل البستي القاضي في تفسيره: حدثنا حرملة حدثنا ابن وهب أخبرني ابن جريح عن أيوب بن هانئ عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله مسعود- رضى الله عنهم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يومًا وخرجنا معه حتى انتهى إلى المقابر فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فجلس إليه فناجاه طويلًا ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيًا فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب- رضى الله عنهم- فقال: ما الذي أبكاك يا نبي الله فقد فقد أبكانا وأفزعنا، فأخذ بيد عمر- رضى الله عنهم- ثم أقبل إلينا فأتيناه فقال: أفزعكم بكائي؟ قلنا: نعم يا رسول الله! قال: إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب وإني استأذنت ربي في الاستغفار لها فلم ياذن لي ونزل عليّ {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى} حتى ختم الآية: {وما كان استغفار إبراهيم لأبية إلا عن موعدة وعدها إياه} فأخذني ما يأخذ الولد من الرقة فذلك الذي أبكاني.
وهذا سند حسن، ولمسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه في الجنائز عن أبي هريرة- رضى الله عنهم- قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» وللبخاري في التفسير وغيره ابن المسيب عن أبيه- رضى الله عنهم- قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي عم! قل: لا إله إلا الله، أُحاج لك بها عند الله»، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟- وفي رواية: فكان آخر ما كلمهم أن قال: هو على ملة عبد المطلب- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك»، فنزلت {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} وأنزل الله في أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56] ولعله استمر يستغفر له ما بين موته وغزوة تبوك حتى نزلت، ورُوي في سبب نزولها غير هذا أيضًا، وقد تقدم أنه يجوز أن تتعدد الأسباب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}
ففيه مسائل:

.المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها:

وجوه: الأول: أن المقصود منه أن لا يتوهم إنسان أنه تعالى منع محمدًا من بعض ما أذن لإبراهيم فيه.
والثاني: أن يقال إنا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بما قبلها المبالغة في إيجاب الانقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم.
ثم بين تعالى أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد عليه الصلاة والسلام، بل المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضًا في دين إبراهيم عليه السلام، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفار أقوى.
الثالث: أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بكونه حليمًا أي قليل الغضب، وبكونه أواها أي كثير التوجع والتفجع عند نزول المضار بالناس، والمقصود أن من كان موصوفًا بهذه الصفات كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديدًا، فكأنه قيل: إن إبراهيم مع جلالة قدره ومع كونه موصوفًا بالأواهية والحليمية منعه الله تعالى من الاستغفار لأبيه الكافر، فلأن يكون غيره ممنوعًا من هذا المعنى كان أولى.

.المسألة الثانية: [دلالة القرآن على استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه]:

دل القرآن على أن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه.
قال تعالى حكاية عنه: {واغفر لأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} [الشعراء: 86] وأيضًا قال عنه: {رَبَّنَا اغفر لِى وَلِوَالِدَىَّ} [إبراهيم: 41] وقال تعالى حكاية عنه في سورة مريم قال: {سلام عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} [مريم: 47] وقال أيضًا: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] وثبت أن الاستغفار للكافر لا يجوز.
فهذا يدل على صدور هذا الذنب من إبراهيم عليه السلام.
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذا الإشكال بقوله: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] وفيه قولان: الأول: أن يكون الواعد أبا إبراهيم عليه السلام، والمعنى: أن أباه وعده أن يؤمن، فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأجل أن يحصل هذا المعنى، فلما تبين له أنه لا يؤمن وأنه عدو لله تبرأ منه، وترك ذلك الاستغفار.
الثاني: أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام، وذلك أنه وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} والدليل على صحة هذا التأويل قراءة الحسن {وَعَدَهَا أَبَاهُ} بالباء، ومن الناس من ذكر في الجواب وجهين آخرين.
الوجه الأول: المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإيمان والإسلام، وكان يقول له آمن حتى تتخلص من العقاب وتفوز بالغفران، وكان يتضرع إلى الله في أن يرزقه الإيمان الذي يوجب المغفرة، فهذا هو الاستغفار، فلما أخبره الله تعالى بأنه يموت مصرًا على الكفر ترك تلك الدعوة.
والوجه الثاني: في الجواب أن من الناس من حمل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] على صلاة الجنازة، وبهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار تخفيف العقاب.
قالوا: والدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين، وهو قوله: {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] وفي هذه الآية عم هذا الحكم، ومنه من الصلاة على المشركين، سواء كان منافقًا أو كان مظهرًا لذلك الشرك وهذا قول غريب.

.المسألة الثالثة: [في السبب الذي به تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله]:

اختلفوا في السبب الذي به تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله:
فقال بعضهم: بالإصرار والموت.
وقال بعضهم: بالإصرار وحده.
وقال آخرون: لا يبعد أن الله تعالى عرفه ذلك بالوحي، وعند ذلك تبرأ منه.
فكان تعالى يقول: لما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله تبرأ منه، فكونوا كذلك، لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله: {واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} [النساء: 125].
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال إبراهيم في هذه الواقعة.
قال: {إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] واعلم أن اشتقاق الأواه من قول الرجل عند شدة حزنه أوه، والسبب فيه أن عند الحزن يختنق الروح القلبي في داخل القلب ويشتد حرقه، فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق من القلب ليخفف بعض ما به هذا هو الأصل في اشتقاق هذا اللفظ، وللمفسرين فيه عبارات، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأواه: الخاشع المتضرع» وعن عمر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأواه، فقال: «الدعاء» ويروى أن زينب تكلمت عند الرسول عليه الصلاة والسلام بما يغير لونه، فأنكر عمر، فقال عليه الصلاة والسلام: «دعها فإنها أواهة» قيل يا رسول الله وما الأواهة؟ قال: «الداعية الخاشعة المتضرعة» وقيل: معنى كون إبراهيم عليه السلام أواها، كلما ذكر لنفسه تقصيرًا أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقًا من ذلك واستعظامًا له.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الأواه، المؤمن بالخشية.
وأما وصفه بأنه حليم فهو معلوم.
واعلم أنه تعالى إنما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام، لأنه تعالى وصفه بشدة الرقة والشفقة والخوف والوجل، ومن كذلك فإنه تعظم رقته على أبيه وأولاده، فبين تعالى أنه مع هذه العادة تبرأ من أبيه وغلظ قلبه عليه، لما ظهر له إصراره على الكفر، فأنتم بهذا المعنى أولى، وكذلك وصفه أيضًا بأنه حليم، لأن أحد أسباب الحلم رقة القلب، وشدة العطف لأن المرء إذا كان حاله هكذا اشتد حلمه عند الغضب. اهـ.